الإخصاء والندماء وهم يتعاطون كؤوس اللطائف ويتواطون على ما في الدنيا من
طرف وطرائف ويتذكرون عجائب الأقطار يشنفون المسامع بخصائص الأمصار فقال
النديم رأيت في بعض الأقاليم من الأراضي الحامية والبلاد القاصية حيوانا
كبيرا سريع السير متردد أشكله بين شكلي الجمل والطير يضرب به في الدبدبة
المثل فيتعاطى التعلل في الكسل إن قيل له أحمل يقول أنا طير وإن قيل له طر
يقول أنا جمل وذكر إن اسمه النعام وسائر أوصافه وأعضائه على إتمام فتعجب
الحاضرون من هذه الصفات والأشكال البديعة والهيآت ثم
PageV01P266
قال وأعجب من هذه الصفات أن هذه الدابة تأكل الجمرات وتلتقط الحصيات
وتختطف الحديدة المحماة من النار تزدردها ولا يتألم لذلك فمها ولا جسدها
وتذيب كل ذلك معدتها ولا يتأثر بها لسانها ولا ترقوتها فأنكر بعض الحاضرين
هذا المقال لكونه لم يشاهد هذه الأحوال ولا رأى ولا سمع خبر طير يأكل النار
ويبلع الأحجار ونسبوه إلى المخارقة في الأخبار فتصدى لإثبات ما يقول بطريقي
المنقول والمعقول فلم يسعف كلامه القبول على ما ألفته منهم العقول لأن
الحيوان بل وسائر الجمادات إذا اتصلت بها النار محت منها الآثار وهذا طير
من الأطيار من لحم ودم فكيف لا تحرقه النار فاتفق الجمهور على تكذيب هذه
الأخبار وقالوا المثل المشهود إنما هو موضوع على لسان الطيور فيمن تردد بين
الأمور فيقال هذا الفقير كالنعامة لا يحمل ولا يطير ومثل هذا المضرب يا شيخ
المشرق والمغرب قولهم طارت به عنقاء مغرب فقال النديم الفاضل الحكيم أنا
رأيت هذا بالعين فلم يزدهم إلا تأكيد المين من الخجالة والندم أمر عظيم
واستمر في حصر حتى منعه السلطان من الدخول إلى القصر وصار بين الأصحاب يشار
إليه بيا كذاب فلم يسع ذلك الأستاذ إلا السفر من تلك البلاد والتوجه إلى
العراق وبغداد وأخذ من الطير النعام عده واستعمل عليها رجلا مستعدة ونقلها
إلى
الصين في عدة سنين تارة في البحر وأخرى في البر وقاسى أنواعا من البؤس
والضر وتكلف حملا من الأموال وتحمل مع المشاق منن
PageV01P267
الرجال فما انتهى به السير إلا وقد مات غالب تلك الطير فوصل إلى حضرة ملك
الخطا واشتهر في المملكة أن النديم الفلاني أتى فاجتمع الناس لينظروا وأمر
الملك للخاص والعام فحضروا وأحضروا النعام في ذلك المحفل العام وطرح لها
الحديد المحمي فخطفته والجمر والحصى فالتقفته فتعجب الناس لذلك وسبحوا لله
مالك الممالك وعلم الصغار والكبار أنه يخلق ما يشاء ويختارفشمله الملك
بمزيد الإنعام واعتذر إليه عما مضى من ملام وزادت رفعته ونفذت كلمته إذ قد
أثبت مدعاه وحقق بشاهد الحس معنى ما ادعاه ففي بعض الأوقات تذاكروا ما فات
وانجر بهم الكلام ما مر من حديث النعام فقال النديم أيها الملك الكريم إني
تكلفت على هذه الأطيار كذا وكذا ألف دينار وقاسيت من المشقة في الأسفار
وعاينت من شدائد الأخطار ما لا تقاسيه عيدان النار واستمريت في هذا العذاب
الأليم المهين وفي سجن المشاق سنين حتى بلغت تحقيق مرامي وتصديق كلامي
ولولا عناية مولانا السلطان لما ساعدني على مقصودي الزمان ولما زال عني اسم
الكذاب إلى يوم الحساب فتبسم السلطان وقال لقد أتيت بمحاسن وما قصرت ولكن